ما هي حقوق اللاجئات السوريات في تركيا
منوعات

السوريين بين الحقوق الواجبات

ما هي حقوق اللاجئات السوريات في تركيا

تحوّل اللاجئون إلى قضية حيوية بعد ثورات ما سمي بالربيع العربي، وخاصةً بعد الثورة السورية التي خلّفت ملايين النازحين واللاجئين الذين هُجِّروا من مدنهم ومساكنهم، فبعضهم “نزح” داخل سوريا، وبعضهم “لجأ” إلى بعض دول الجوار ودول أوروبا. ولكن قضية اللاجئين السوريين في تركيا تحديدا تحولت إلى أزمة؛ لعدة أسباب، لعل أبرزها ثلاثة:

السبب الأول يتصل بالوضع القانوني للجوء في تركيا التي تشترط اشتراطات محددة لقبول “اللجوء” القانوني فيها، فاتفاقية 1951 التي وقعت عليها تركيا حصرت حق اللجوء بالأوروبيين الذين غادروا بلادهم عقب الحرب العالمية الثانية، ثم عُدلت تلك الاتفاقية ببروتوكول عام 1967 الذي تخلى عن ذلك القيد الجغرافي ليشمل اللاجئين من باقي الدول.

لا يحمل السوريون في تركيا الصفة القانونية التي تفيدها كلمة “لاجئ” وتفترض مجموعة من الحقوق كتلك التي تتوفر في حالة لجوء السوريين مثلاً إلى دول أوروبية مثل ألمانيا، ولكنهم يندرجون تحت صفة “الحماية المؤقتة” التي تُمنح للفارين من ظروف سيئة في بلدهم

وبناء على هذا، لا يحمل السوريون في تركيا الصفة القانونية التي تفيدها كلمة “لاجئ”، والتي تفترض مجموعة من الحقوق كتلك التي تتوفر في حالة لجوء السوريين مثلا إلى دول أوروبية مثل ألمانيا، ولكنهم يندرجون تحت صفة “الحماية المؤقتة” التي تُمنح للأشخاص الفارين من ظروف سيئة في بلدهم، وهم معرضون للخطر في حال أُعيدو إلى بلدهم الأصلي. ومعنى الحماية المؤقتة أن لصاحبها الحق في البقاء في تركيا حتى يتم التوصل إلى حل أكثر دواما لوضعه، وله الحماية من العودة القسرية إلى سوريا، وله كذلك التمتع بحقوقه واحتياجاته الأساسية.

السبب الثاني: أن اللاجئين تحولوا إلى ورقة سياسية تُستخدم جزءا من معارضة النظام الحاكم تارة، ولمغازلة الناخبين تارة أخرى، أو مجاراة للمعارضة ولسحب ورقة اللاجئين من يدها تارة ثالثة، أي أن اللاجئين السوريين باتوا ورقة بيد النظام والمعارضة على السواء. ولكن هذا يعني -على أي حال- أن ثمة شريحة شعبية في تركيا ترى أنها متضررة من وجود اللاجئين السوريين لأسباب مختلفة، بعضها يندرج ضمن الشائعات والنزعات العنصرية والقومية الصاعدة خصوصًا في أوقات الضيق والضنك السياسي والاقتصادي.

السبب الثالث: وجود بعض الاختلافات الثقافية والاجتماعية (بل ربما أوجه التشابه الذي يولد التنافر أحيانًا!)، خصوصًا أن تدفق موجات كبيرة من اللاجئين في وقت قياسي أدى إلى مظاهر اجتماعية وتأثيرات اقتصادية بارزة ربما أزعجت فئات من الأتراك الذين لم يتعودوا على الانفتاح الثقافي على ألوان أخرى، بالإضافة إلى أن موجات اللاجئين تلك حملت أصنافًا مختلفة من الناس، شأنهم في ذلك شأن التنوعات الموجودة داخل المجتمع التركي نفسه، ومن ثم فنحن لا نتحدث عن مجتمعات ملائكة على كلا الطرفين.

ومن مظاهر أزمة اللاجئين تلك: الخبر الذي تم تداوله مؤخرًا حول عزم السلطات التركية ترحيل بعض اللاجئين السوريين -كان من بينهم صحفي أعد برنامجًا ساخرًا مسّ موقف بعض الأتراك من السوريين- بتهمة إثارة الفتنة أو الإساءة إلى العلَم التركي أو ما شابه. وهذه الواقعة أثارت جدلاً كبيرًا بين السوريين الذين انقسموا فريقين: معارض ومؤيد بل مسوغ للترحيل؛ تفرض تأمل ما جرى، إذ إنها عرَضٌ لتحول اللجوء نفسه إلى أزمة كما سبق. واللجوء إذ يتحول إلى أزمة يضعنا أمام ثلاثة مستويات، قد يُغَيَّب بعضها عمدًا؛ بوصفه جزءًا من سياسة حشر اللاجئين في الزاوية وحملهم على البقاء في دائرة رد الفعل فقط أو دفع التهمة أو الإحساس بالذنب أو الاستضعاف لمجرد كونهم لاجئين أو “غرباء”.

المستوى الأول: أخلاق مجتمع اللجوء وخصوصًا في وقت الأزمات، والقيم التي يحتكم إليها، وهل يأخذ بعضه على أيدي بعض؟ وهل يتمتع هذا المجتمع بحيوية مدنية قادرة على احتواء المشكلات وأداء أدوار تطوعية بناءة للحفاظ على السلم ومساعدة اللاجئين كما شهدنا في بعض البلدان الأوروبية؟

المستوى الثاني: صورة مجتمع اللاجئين أنفسهم وكيفية إدارتهم لشؤونهم، وما إذا كانوا يحتكمون إلى معايير قويمة بوصفهم جماعة لها مصالح عامة، وتحركها قضية ومصير مشترك، ويتهدد بعضها ما يتهدد الآخرين.

المستوى الثالث: دور الدولة نفسها في مثل هذه الأزمات، وأعني بالدولة هنا مؤسساتها المختلفة السياسية والقضائية والتشريعية.

ففيما يخص مجتمع اللاجئين، تفترض المسألة وجود وعي حقوقي وسياسي في ظل فكرة الدولة المسؤولة ذات الواجبات (لا ذات المنح والعطايا)، ولكن مثل هذا الوعي يبدو غائبًا، ويؤكد غيابَه أمورٌ ثلاثة:

الأمر الأول: تداول بعض المقولات التي لا تؤيد عملية الترحيل فقط بل تسوغها أيضًا تحت ذرائع شتى، من أبرزها مقولتان: الأولى: “يا غريب كن أديبًا” أي مؤدبًا، والمقولة الثانية تحمّل المسؤولية لسلوك السوريين اللاجئين وأنهم السبب في تفاقم مثل هذا الوضع؛ إما لأنهم لم يراعوا خصوصية المجتمع التركي أو لأنهم يتصرفون “بشكل طبيعي” لا بوصفهم “لاجئين” غرباء، أو لأنهم يزاحمون الأتراك في ساحات العمل وغيرها! ومثل هذه المقولات المرنة تُستخدم ذرائع لتسويغ وقائع التمييز العنصري من قبل فئات من بلد اللجوء، أو لتسويغ قرار سياسي بحيث يثبت صاحبها ولاءه للسلطة المحلية، أو ليعفي نفسه من مقتضيات الواجب عليه في الدفاع عن هؤلاء المستضعفين عبر إثبات أنهم مذنبون، أو لإثبات تفوقه على سلوك “هؤلاء السوريين” وكأنه ليس منهم!

ولكن الإشكال الأهم هنا أن المقولتين تغيّبان دور الدولة والتوصيفات القانونية التي سبقت الإشارة إليها (اللاجئ والحماية المؤقتة)، فهما ترداننا إلى منظور فردي للعلاقات والحقوق. فاللاجئ أو من يحظى بالحماية القانونية ليس ضيفًا أو عابر سبيل حتى يتم حشره في الزاوية وتحميله وزر لجوئه إلى هذا البلد، بل له وضع قانوني يجب أن تكفله دولة اللجوء، فضلاً عن الأبعاد الأخرى الإنسانية والدينية المفترضة هنا، والتي لا تدخل في وظائف الدولة بل تمس وظائف المجتمع وأخلاقيات الأفراد أنفسهم.

الانقسام الذي حصل بين مجتمع اللاجئين أنفسهم تجاه خبر الترحيل يعكس غياب المنظور الحقوقي لدى فئة منهم على الأقل، إذ يُفتَرض بهذه المسألة أن تكون مسألة إجماعية وبديهية؛ لأنها مسألة حقوقية وإنسانية بغض النظر عن تفاصيل شخوصها.. من هم؟ وماذا فعلوا؟ وهل سيتم ذلك بحكم قضائي أم بقرار سياسي؟

فمفاهيم مثل الغربة والضيافة وعابر السبيل تحيل إلى نمط فردي وتطوعي من العلاقات يتسم بسمات الأفراد وطبائعهم، أما الحديث عن اللاجئين فهو حديث يرتبط بفعل الدولة ويستند إلى أطر قانونية ومؤسسية. وبناء على هذا، يكشف نمو مظاهر التمييز العنصري أو الاعتداء على اللاجئين عن غياب الدولة نفسها وتقاعسها عن أداء دورها، سواء في وضع التشريعات القانونية الملائمة أم في تطبيقها، وليس من واجبات “اللاجئ الأديب” أن يتحمل هذا الفراغ القانوني أو تقاعس الدولة عن مهامها.

يمكن تقويم أداء أي جسم “سوري” في تركيا ومساءلة مواقف أعضائه بناء على أمرين اثنين: الأول: مدى رعايته لمصالح السوريين اللاجئين والمقيمين، والثاني: وجود مسافة تفصل بينه وبين التطابق مع مصالح بلد اللجوء على حساب مصالح الجماعة الوطنية التي ينتمي إليها ويدعي تمثيلها. وهذان المعياران هما ما يحدد مدى سورية ذلك الكيان، ومدى تمثيله أو عدم تمثيله للسوريين.

الأمر الثاني: أن الانقسام الذي حصل بين مجتمع اللاجئين أنفسهم تجاه خبر الترحيل يعكس غياب المنظور الحقوقي لدى فئة منهم على الأقل، إذ يُفتَرض بهذه المسألة أن تكون مسألة إجماعية وبديهية؛ لأنها مسألة حقوقية وإنسانية بغض النظر عن تفاصيل شخوصها (من هم؟ وماذا فعلوا؟ وهل سيتم ذلك بحكم قضائي أم بقرار سياسي؟…). فمن جهة دولة اللجوء يُفترض بها أن يكون الحكم في ذلك هو القانون والقضاء (إن وقع جرمٌ ما أو إخلال بالقانون)، وهذا ما يعبر عن حضور الدولة وأدائها لمهامها. ومن جهة مجتمع اللاجئين، فإن هذه الواقعة تمسهم جميعًا؛ لأن حصولها مع بعضهم يجعلهم جميعًا معرضين لها فيما إذا تمت خارج إطار القانون والعمل المؤسسي، ونستثني هنا أولي الحظوة ممن يرون أنفسهم في مأمن من ذلك نتيجة اعتبارات خاصة.

الأمر الثالث: غياب أي تحرك بارز أو صريح من قبل المجالس والهيئات السورية التي تأسست في تركيا باسم السوريين وتدّعي تمثيلهم، سواءٌ تحت لافتة إسلامية أم وطنية. ومثل هذه الأزمة اختبار حقيقي لجدوى وفعالية تلك الهيئات ومدى تمثيليتها؛ خصوصًا أن مقتضيات “الإسلامي” و”الوطني” تفرض القيام بمهام وتقديم خدمات ترعى المصالح العامة للاجئين السوريين. فما بالك إن كان بعض هؤلاء ممن أيد فكرة الترحيل ولم ير بها بأسًا!وفي هذه النقطة الأخيرة، يمكن أن نرصد أوجه تشابه بين النظام السوري من جهة، وبعض الهيئات السورية التي نشأت من حول الثورة السورية وبفضلها من جهة أخرى. فكلا الطرفين يدعي تمثيل الشعب في ظل غياب أسس ديمقراطية أو انتخابات حرة ونزيهة، وفي ظل تبعية كل طرف لأطراف دولية أخرى، وفي ظل غياب المساءلة والمحاسبة والشفافية. ولا يمكن ادعاء الثورة على نظام عبر مشابهته بأهم خصائصه وسماته.

يمكن تقويم أداء أي جسم “سوري” في تركيا ومساءلة مواقف أعضائه بناء على أمرين اثنين: الأول: مدى رعايته لمصالح السوريين اللاجئين والمقيمين، والثاني: وجود مسافة تفصل بينه وبين التطابق مع مصالح بلد اللجوء على حساب مصالح الجماعة الوطنية التي ينتمي إليها ويدعي تمثيلها. وهذان المعياران هما ما يحدد مدى سورية ذلك الكيان، ومدى تمثيله أو عدم تمثيله للسوريين.

أما فيما يخص دور الدولة، فالمسألة تبدأ من مشكلة التوصيف القانوني للسوريين المقيمين على أراضيها، والذي يجعل من تركيا بلد حماية مؤقتة أو بلد عبور إلى طرف ثالث، وهي مشكلة قديمة كما سبقت الإشارة، ومع ذلك فالحماية المؤقتة تفرض -من الناحية القانونية- حقوقًا وخدمات كما هو موضح على صفحة مفوضية اللاجئين للأمم المتحدة في تركيا، والتي خصصت إرشادات للسوريين لتوعيتهم بحقوقهم والتوصيف القانوني لهم والشروط اللازمة لذلك.

القضية الأهم هنا هي أن التمييز بين توصيفات المواطن والمقيم واللاجئ والحماية المؤقتة وغيرها، هو مسألة تتصل بالإطار القانوني الحديث، وبقاموس الدولة القومية التي تقوم على حدود جغرافية وشعب وأرض ذات حدود وسيادة، والانتماء لهذه الدولة يكون عبر الجنسية التي تخوّل جملة من الحقوق المدنية والسياسية. وهذا يعني أن منظومة الحقوق محدودة بإطار قانوني يحدده طبيعة النظام السياسي الحاكم وشكل الدولة والتزاماتها الدولية، والمواثيق التي وقعتها أو لم توقعها، وهذا سيعيدنا مجددًا إلى مسألتين بالغتي الأهمية هنا:

الأولى: انفصال الأخلاقي عن القانوني، فالأخلاقي أوسع بكثير من القانوني، ثم إن القانوني قد لا يكون أخلاقيًّا.

الثانية: أن النظم غير الديمقراطية سيضيق هامش الحقوق فيها للمواطنين أنفسهم، فكيف بغيرهم من اللاجئين والمهاجرين؟ ومن ثم طُرحت -أوروبيًّا- انتقادات لدول المنطقة، وخاصة دول الخليج، لعدم استقبالها لاجئين من أبناء المنطقة المليئة بالأزمات والمصدّرة للاجئين، فضلاً عن سوء معاملة اللاجئين في بعض دول الجوار حيث يتعرضون للتمييز العنصري مع غياب الأطر القانونية وضيق الثقافات المحلية عن استيعابهم.

هكذا نجد أنفسنا أمام تعقيدات قانونية وسياسية واقتصادية واجتماعية أيضًا، مما يجعل من “حق التنقل” المقرر في مواثيق حقوق الإنسان الحديثة معضلة من مخرجات الدولة القومية الحديثة، في حين تمتع إنسان ما قبل الدولة القومية بحرية بالغة في الحركة والتنقل والعيش حيث شاء، ونظرة سريعة على كتب التراجم كفيلة بإدراك ذلك.

فنظام الدولة القومية ردّنا إلى دائرة السيادة التي تسيّج الأرض والشعب معًا بمنظومة مغلقة من الحقوق، ثم راح يحاول حل المشكلات التي نتجت عن ذلك، فجاء القانون الدولي ليسد بعض الثغرات ولكنه يفتقر إلى الإلزام؛ لأنه سيصطدم مجددا بمسألة السيادة، وفي هذا الإطار تندرج قوانين اللجوء التي تبدأ بالإذن للاجئين بدخول أراضيهم والإقامة فيها وضمان حقوقهم. هكذا بتنا أمام مقتضيات دوائر ثلاث: الإنساني والإسلامي والدَّولي (نسبة إلى الدولة)، ولكن حين تتعارض هذه الدوائر في ميدان التطبيق سيتقدم عليها الدولي الذي مرجعه السيادة التي تسود ما عداها.

فالإنساني يفرض أن الإنسان -من حيث هو إنسان- يستوجب حقوقًا يجب أداؤها وصونها، والإسلامي يفرض منظومة أخلاقية من الحقوق والواجبات على أفراده، سواء تجاه أنفسهم، أم تجاه بعضهم وبعض، أم تجاه غيرهم ممن ليسوا مسلمين (مفهوم الذمة هنا له مضمون أخلاقي). بل إن الفقه الإسلامي -في جملته- عبارة عن منظومة من الحقوق بالمعنى الواسع الذي يمتد فيما وراء القانوني ليشمل الديني والأخلاقي أيضًا.

فتحويل اللاجئين إلى أزمة أو ورقة سياسية يتم الزج بها في أتون الصراعات الحزبية والسياسية أو تعليق أسباب الضيق السياسي والاقتصادي عليها بوصفها الطرف “الغريب” والأضعف، إنما يَقوى حين تضعف فكرة الدولة وأطرها المؤسسية وفعالية تشريعاتها الملائمة التي تسعى لخدمة الصالح العام لجميع المقيمين على أرضها، بغض النظر عن توصيفهم القانوني مواطنين كانوا أم لاجئين. ومجرد اللجوء ليس جريمة أو نقيصة يجب الاعتذار عنها أو تحمل تبعاتها باستمرار عند كل نائبة!

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *